كتابات وآراء


03 مارس, 2017 12:58:00 ص

كُتب بواسطة : سناء مبارك - ارشيف الكاتب


قلتها مرة لشخص كنا على وفاق عاطفي ولكنه كان يخنقني بكمية هائلة من التوقعات العالية والصورة "المثالية" في نظره لامرأة لم تكن تشبهني في شيء، صنعها هو لي في خياله وأحبها بجنون ثم جاءني بهذا الرداء الجاهز ولبسته أنا تحت وطأة هذا الكم الهائل من "العشم" ثم عشنا سوية ما يشبه حفلة التنكّر..

كان يكره البندورة (الطماطم).. أخبرني ذات مرة بأني أروع وأجمل من أن أحب شيئا مقيتًا كالطماطم، لم أجروء على القول بحبي الكبير لها، وحتى لا تهتز نظرته الجميلة تلك هززت له رأسي، ثم أقنعت نفسي بأني فعلًا أروع من أن أحب الطماطم، وهكذا ببساطة توقفت عن شرائها وأكلها وبت أزيحها جانبًا من أطباق السلطة في المطاعم.. كان هذا العشم جميلًا في البداية، نوع جديد من المشاعر يجعلك ترغب في أن تجاريه ثم تحوّل إلى غول كبير، نظرية الطماطم امتدت وتشعّبت، كان عليّ أن أحب أشياءً لا أحبها وأكره أشياء لا أكرهها، كان علي أن أغير طبائعي وشكلي وقناعاتي حتى لا أكسر "خاطر" هذا العشم الكبير، كان طيبًا وحنونًا ومهتمًا ومحبًّا ولم يكن يفرض عليّ شيئا بالإكراه ولكنه كان يضعني تحت وطأة هذا الحبس الانفرادي من المشاعر..في كل مرة ابتعد فيها عن ذاتي أشعر بالاختناق، يختفي اوكسجين المرء وهو يذهب مكانًا أبعد من عمقه، كنتُ أشعر أني أمشي طوال الوقت على مثل ذلك الحبل الرفيع الذي يسير عليه هواة المغامرات وأسفل مني هوة عميقة، إن فقدت التوازن للحظة سأسقط، سأسقط من هذا العلو كله، كانت الفكرة وحدها مخيفة فكرة أنه غير مصرّح لك بالخطأ، وأن أي اختلال في اتزانك على ذلك الحبل المقدّر لك كفيل بأن يسقطك من نظر الغير، النظرة التي وضعتك أعلى القمة ثم إذا فكرتَ في النزول إلى أرضك فلن تُنزلك إلا قتيلًا مضرجًا بدماء "خيبة الأمل"!

أعرف تلك القصة عن أحدهم؛ كان ابنًا لجرّاح المخ والأعصاب الشهير، الذي قرر أبوه عنه منذ أن كان في طفلًا انه سيكون خليفته القادم في عالم الطب، كان صديقنا يعيش في رغد وكان كل شيء متاحًا تحت أمره، كان عليه فقط أن يتفوق، ثم كل شيء آخر يصبح بين يديه، كانت علاقته بأبيه كلها تتحرك وفق "بندول هذا العشم الكبير، في الثانوية حصل على المعدل الذي يخوّله لدراسة الطب، كانت فرحة العائلة لاتوصف، إلا أن هذه السعادة تحولت سريعًا إلى خيبة كبيرة عندما أدرك أنه لايحب هذا المجال، ولا يشعر بالرغبة نحوه، كان يريد أن يدرس الهندسة وكان هذا الخيار أبعد ما يكون عن هالة "العشم" التي أحيط بها ولم يكن مجرّد التفكير في طرح هذا الخيار واردًا، لقد انصاع لما قدر له في أولى سنواته في الكلية، وبعد 3 سنوات كان كأس الصبر قد فاض، فما كان منه إلا أن صارح أباه برغبته في تغيير التخصص الجامعي، لم يعارضه ولم يبد رأيـًا، التزم الصمت وبدأت صحته في التدهور، لقد لبس قناع خيبة الأمل وانكمش على ذاته، كان يقولها بعلو صمته "ابني خذلني"، رغم ان ابنه أثبت جدارته في تخصصه الجديد وحصل على الامتياز في سنتيه الأولى والثانية، إلاّ أن ذلك لم يشفع، في النهاية لم يحتمل ثقل هذا الكم من العشم المسكوب هدرًا، قدّم الولد على الهجرة في إحدى الدول الاسكندنافية، ترك كل شيء خلفه ،الطب والهندسة والعشم ؛وغادر، تزوج هناك ويعمل الآن كموظف بسيط في شركة شحن للبضائع.. لا أعرف إن كان سعيدًا أم لا ولكنه لم يعد دياره منذ ذلك الوقت.

ليس بالإكراه أو الإرغام وحدهما يسلب المرء حريته في الاختيار؛ ولكن أيضًا بـ "العشم"، يتعشّم منك الناس أن تكون الشخص الذي يتوسّمونه، فيتحول هذا العشم إلى جزء من تعريفك وكينونتك التي يصعب التمرد عليها، أنت ستتزوج ابنه خالك التي "تعشّمت العائلة كلها زواجكما منذ كنتما طفلين، أنت لا تحبها وهي لا تحبك ولكنكما ستتزوجان في النهاية.. انت ستقضي نصف حياتك وستهدر جل وقتك ومالك ومشاعرك ورغباتك في محاولة مجاراة "عشم" الآخرين فيك.

يتحدث الأدباء والحكماء منذ قرون عن مغبة رفع سقف التوقعات، غرضهم في ذلك تجسيد فكرة "الضحية والجلاّد" يقولون لنا ستكونون الضحية الطيبة التي يخذلها الناس، فنتوسم في أنفسنا خيرًا ولا نراجع طريقتنا مع من يخذلوننا، لو عدنا قليلًا للوراء لوجدنا أننا لم نكن ملائكة كما نحب أن نعتقد ولتحملنا مسئولية أخطائنا في التعبير عن الحب والأبوة والصداقة والامتلاك والتعلق، ربما وجدنا أننا لم نترك لهم مجالًا ليمارسوا أمامنا ضعفهم، وسوءهم، واختلافهم، وجنونهم، لانترك لهم مجالًا ليختارونا، ليهربوا منا، ليعودوا إلينا، سلبناهم الحرية في الكتمان والخصوصية والغفران والمصالحة، صادرنا حريتهم في حب ما نكره وفي كراهية مانحب، أردناهم نسخًا من طموحاتنا ولم نضع المسافة اللائقة لتزهر الطمأنينة والراحة بيننا قبل أن يزهر الحب.. نعم لنخفض سقف التوقعات ولكن هذه المرة ليس لكي لايخذلنا الناس ولكن لكي لا نقتلهم شنقًا بالعشم، ولنتذكر دائمًا أن الطريق إلى الجحيم مفروش "بالنوايا الحسنة"، وفي رواية أخرى "بالعشم الزائد".