كتابات وآراء


05 يوليه, 2018 07:55:00 ص

كُتب بواسطة : نورا اللحجي - ارشيف الكاتب


ن


 

أولا عليك ان تدرك تمامًا بأنك “نتيجة”، نتيجة مرجعيات، فِكر،ايدلوجية معينة، وعليه فأن الزاوية التي ترى من خلالها العالم والكون تتبع تلك المسببات التي قادت لهذه النتيجة والتي هي “أنت” .

يولد اي طفل صفحة بيضاء، ومع مرور الوقت يتم تشكيلهُ وفقًاللبيئة والثقافة والفكر الذي يحيطه، وينتقل من مرحلة إلى اخرى، تعاقبا وتسلسلا علىخطين متوازيين:

 

من الناحية الجسدية – نحن نعلم – انه ينتقل ويؤخذ بالتدريج تباعا من الطفولة، الشباب، وصولا إلى الكهولة، ولا يُمكن بأي شكلٍ من الاشكال كسر هذهالقاعدة او القفز من مرحلة لأخرى دون المرور من خلالها بكل معانيها وتناقضاتها وفلسفتهاواحتياجاتها .

 

أما من الناحية الذهنية/ الفكرية، فأن الطفل يبدأ بملاحظةالاشياء، الاشخاص، الاصوات والتغيرات من حوله دون ان يعي -مثل البالغين- ما يحدث، لكنه يستجيب لها تبعًا لحواسه، إذ تكونُ ادمغتهم غير مكتملة الوعي او الادراك، لكنها حساسةجدا لما حولها، هذا الاحساس يتبعه ردة افعال مختلفة، مثل البكاء فجأة او الضحك، المهمان بعد فترة من الزّمن وكحالة طبيعية – غير مَرضيّة- يبدأ الطفل بادراك ما حوله، متمكنابذلك من ابداء ردود فعل مختلفة، كالاستجابة او الرفض، ويؤثر على هذه الردود بشكل اساسي(المجتمع، الوطن، العرقيّة، والدين). لكن ماذا لو جرّدنا الانسان “اي انسان” او طفلاي “الطفل”، من كل المرجعيات السابقة التي اسِس عليها، او اخضعناه لمرجعيّة اخرى مغايرة،هل سيبدي ردة الفعل ذاتها؟

 

إن الطفل ذاته وُجِدَ بدافع من الفضول والاكتشاف، فاذا ماقوبل هذا الدافع بالقمع والرفض، محاولون بذلك اخراس عقولهم وابقاءها على التبعيّة،هُنا تحديدًا لا يصبح للوعي حضورا كاملا .

 

لأن الوعي، ليس حالة من اليقظة او الرؤية, بل هي حالة منالبصيرة والادراك لما هو اعمق من ذلك بكثير، الوعي الحقيقي، هو (محاولة) التجرد عنالافكار السابق والتبعية العمياء التي من المحتمل ان تخلق بيئة عنصرية منغلقة على ذاتها،والذي يجعل من كل ذلك حاجزا منيعا وعائقا امام الانسانيّة وبالتالي التقدم والمعرفة،لأن التبعية العمياء تعني بالضرورة انعدام الفِكر، الابداع، والابتكار .

 

إن عدم رغبتنا برؤية الجزء الاخر من الحقيقة والعالم (والذيبالضرورة لا ننتمي اليه ) هو جزء من عدم الوعي، او (عدم رغبتنا بإدراكهِ ) ان صح التعبيروعليه فإن جزء من المعرفة تنحجب، وذلك كله – بالطبع – لا يلغي وجوده، لمجرد عدم ابداءاستعدادنا للاعتراف به !

 

إن عدم رغبتنا في معرفة المشكلة (اي مشكلة) والاعتراف بها،وبالتالي عدم اخضاعها للنقد الموضوعي، (دون تحيز) فأن احتمالية معالجة اي منها سيكونناقصا وغير مجدي، وقس على ذلك..

 

لكن اين يكمن السبب؟

 

إن الأفكار التي تنتج عنها ايدلوجية ما، اذا ما تم تلقينهابشكل هش وغير مستندة على جذور راسخة، ومعرفة واسعة وقناعات تامة، ونقد موضوعيّ دونتقديس مطلق لها، بما يدع مجالا واسعا لتقبل الاخر (أي كان انتماؤه) فأنها بالضرورةترى غيرها على خطأ وتعاديه، وتنتقده، لأنها تعرف في قرارة نفسها (اعني الافكار ) انهاقابلة للزوال حين تتصادم مع “الاخر”، ومن ذا الذي يريد لأفكاره الزوال؟!

 

إذ ان الهرب “الخوف” الذي يتبعه عداء لمواجهة الاخر، لا يجدينفعًا، ولا يبقيها صحيحة دون اخطاء، ومن هذا المنطلق يُصبح الاقوى لا من يحمل سلاحا يُخضع الغير لمرجعيته هو (و ان كان ذلك يتنافى مع ما نراه ونشاهده في الواقع اليوم)بل من يحمل فكرة يستطيع من خلالها تقديم نهضة جديدة، دون المساس بالهوية .

 

ولنا ان نذكر هنا مقولة علي الوردي من كتابه مهزلة العقل البشري:

 

“الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، والذي يبقى على آرائهالعتيقة، هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد”

 

وعلى ذلك الاساس نقول ان الثقافة:

 

هي القيم والافكار وما ورثه (ذلك/أي طفل) من أيدولوجيات وعاداتوسلوكيات في اللاوعي، التي تنتج تبعا لذلك وعي الانسان ونهجه وسلوكياته، حين يُنشأفي مجتمع ما، فاللغة ثقافة، والعادات والتقاليد (سلبية /ايجابية كانت ) ثقافة، والمبادئثقافة، والقوانين، والتشريعات والزي التقليدي وطرق الاحتفال بالمناسبات، واداء العباداتوالمقدسات ثقافة، حتى الرقصات والفنون الشعبية تُعد ايضا ثقافة .

 

و الفرد الذي نُشئ على العُنف والكراهية والقمع، فذلك لأنهتشرّب من ثقافة تدعو للعنف والكراهية والقمع، فكيف تساهم ثقافة منغلقة كهذهِ، من خلالرفض فكرة وجود الاخر، لبناء مجتمعٍ وشعب سويّ؟

 

قُلنا سابقًا:

 

إن عدم رغبتنا في معرفة المشكلة (اي مشكلة) والاعتراف بها،وبالتالي عدم اخضاعها للنقد الموضوعي، (دون تحيز) فأن احتمالية معالجة اي منها سيكونناقصا وغير مجدي..

 

فهل تُحَقق النهضة حين نتناول الجزء الموروث من المعرفة فقط؟دونًا عن بقية المعارف والثقافات؟ إن الانغلاق على رأي /فكرة /معرفة ما يُخضعها للتلفوعدم احتكاكها بالأخر يجعلها ركيكة، بحيث لا تتمكن من التأثير والتأثر بغيرها وبالتاليتحقيق شروط وجود الثقافة الفكرية التي تنهض بالمجتمع والشعب .

 

و علينا ان نذكر هنا والان، كيف ان اعرق واقدم الحضارات التيقدمت وساهمت وانتجت مثل ( اليونانية ) كانت حضارات تتسم في طبائعها بالجدلية والحواراتوالاخذ والعطاء وتبادل المعارف والعلوم .

 

و بالطبع هناك فرق شاسع بين من يأخذ ويتلقى المعرفة الجاهزةمن شعوبٍ اخرى، وبين من يبتكرها ابتكارا ويناقش فيها، ولأننا لا نتمكن -بشكل مستعصي-من اتخاذ المسلك الثاني، فأننا – وبكل اسف-ممن يتلقون المعرفة تلقينا، ثم على النقيضالعجيب نسعى لدحضها ونصر بعدها ان معظم المعارف من الشعوب الاخرى، هي مغلوطة وغير صحيحةبل وكافرة !

 

و هنا تحديدا نكون قد وقعنا في فخ “وهم المعرفة”، فحين انالشعوب الاخرى تعمل من اجل تطوير نفسها بالعلم والمعرفة والسؤال والبحوث، نحن نفضل-برؤية غير منطقية وغير معقولة غالبا- التقوقع بالمعارف والافكار التي انتهت واندثرتمنذ سنوات وعقود بل قرون!

 

يجب الان ان نعلم ونؤمن بأن النقاشات والجدليات وطرح الاسئلةفقط، هي التي تُنتج مجتمعا مستنيرا بالمعرفة، لأن المعرفة قوّة، اما الاحتفاظ والانغماسبالموروثات التي كانت تناسب فقط وقت معين الزمن هي شكل من اشكال الجهل المحض ووهم المعرفةليس إلا .

 

و حجة ان هذا من الفينا عليه اباؤنا هي حجة واهية، تجعل منامجتمعا سهل الاخضاع دون ان نشعر، لأننا مجتمع وشعب وأمة بلا اسس معرفية سوية حتى بتأريخناذات نفسه احيانا!

 

المثقفون .

 

و من هنا تحديدًا نُدرك ماهية الثقافة في جوهرها بانها امرٌيتعدى الكُتب او النخبة “المثقفة ”، ولا اقُلل هنا من اهمية الكتب او اهمشها او الغيضرورة وجود نخبة مثقفة في اي مجتمع كان بل على العكس تمامًا، إذ لا مفر من اهمية الكتب،دليلًا على سعة الادراك وحسن اختيار مصادر المعرفة، فالكتب هي ترسيخٌ لأفكار اصحابها،وهي الوسيلة الاساسية التي من خلالها يكتسب المرء ثقافات ومعرفة اخرى، اما النخبة المثقفةفأنها العنصر الرئيسي لحركة المجتمع ونهوضه، لكن ماذا لو تم حجب ومنع مجموعة من الكُتب والمراجع العلمية والادبية التي تتبع افكار مغايرة لما هو سائد عن المجتمع او بمعنىما، الافكار (الجريئة )؟الا اذا تم اعتبار السائد هو الحقيقة المطلقة، واي محاولة لطرحالاسئلة الفكرية والنقاشات، امرٌ من شأنه ان يدعو للانحلال الاخلاقي والتمرد على العادات؟

 

لماذا كل هذا “الخوف” من الاخر، ومن هو الاخر؟ وعلى اي اساسيتم تصنيفه؟ العرق، الدين، اللون، الشكل، الجنس، الجنسية، اللغة؟ بمجرد ان تصنف الاخرتبدأ العنصرية بالظهور، ربما يقول البعض انها دعوة للتخلص من الهويّة، كلّا، ليست الهويةما تجعلنا في صراعٍ مع الاخر..

 

إن مجتمعات كهذه تخاف -بدرجة اساسية- من طرح سؤالين تبتدئبـ “لماذا” و“كيف” ثم تدعي بغير منطقيّة انها تسعى وراء المعرفة والعلم !

 

و من خلال هذه المعُضلة تحديدًا هناك مجتمعات كثيرة يُقسّم فئاتها إلى “مثقفين /و اخرين من عامة الشعب ” رغم ان هذا المعنى لا يستقيم، لأن (بنظرالمجتمع)، المثقفون هم الذين خرجوا عن السائد، الذي بالضرورة يُكبل افرداه عن المعرفةوالوعي، ثم يتذمر بكل بجاحه اننا مجتمع يعاني الفُقر والمشاكل والامراض والانحطاط.

 

ومن هُنا دعوة لجعل فكرة القراءة (كل انواع القراءة وكل انواعالكتب والفن والموسيقى والعلوم والمعارف)، فكرةٌ اساسيّة لعامة الشعب والناس وفي الشارعالعام كذلك، لا جزء منه فحسب.

 

و الثقافة “إن اردنا” تسميتها واطلاقها على من يحملون الكًتبويسعون لإقامة مناسبات والمؤتمرات الثقافية، فأنها – اولا واخيرا- يجب ان تسعى سعياحثيثا (اعني الثقافة) لبناء الانسان، دون أدني تحيز او سعي لإقحام الاجندة السياسيةاو الدينية او العرقية او تنميطها، او السعي وراء اخراس العقول بإبقائها على التبعيةوالخضوع وطمس كل ما هو من شأنه ان يَخلق ثقافةُ فكرية ثرية بالمعلومات والاسس .

 

و لربما كل ما سبق ذكره لا يبدو ذو اهمية، مقابل ما هو أهمكالوضع الاقتصادي، السياسي، المعيشي ..

 

لكنّ حريٌ بنا ان نفهم الان 

 

  أن الشجرة التي تُزرع في بيئة ملوثة، وغير صحيّة تموت دونان تشعر .

 

و عليه .. هنا، ان نؤكد اهميّة وجود الطفل/ الابناء، ضمنجيلٍ يتطلّع لكل جديد ابتداء من الاسرة الواحدة المتماسكة، وصولا لأساليب التعليم ضمنمناهجنا الدراسية تطمح لخلق فكر واسع وحُر، إلى الشارع العام، لأن البِناء الصحيح المتماسكوالمبني على اساساتٍ قويّة، لا يصبح بناية عشوائية يومًا ما، ولأنَّ البنايات العشوائيةتصبح بعد مدة من الزمن خطرًا على باقي المنطقة .